dimanche 12 avril 2015

لا لحرب وقودها الفقراء !!



ببدء الحملة الجوية "عاصفة الحزم " لجيوش أمراء و ملوك الدول العربية على مواقع الحوثيين في اليمن يدخل الصراع بين الشيعة  و السنة  مرحلة جديدة , فصلا دمويا جديدا  سيكون الفقراء كالعادة كبش فدائها ووقودها في حروب لا ناقة لهم فيها و لا جمل .. إعلام السادة و السلاطين , الشيعة كعادتهم  يحاولون حشد "تأييد" الفقراء خلف  جنرالاتهم  تساعده في ذلك "نخب" مختلفة "التوجه" و "التفكير" , تتفق جميعها على تمجيد حروب السادة و تبرير و تطويب موت الفقراء العبثي في سبيل من يستعبدهم ... الجميع يلقي بزيته القذر أو بخوره "المقدس" على النار التي التهمت الآلاف و ستلتهم أعدادا لا حصر لها من الفقراء , في معارك السادة, الفقراء مجرد أدوات لا حول لهم  و لا قوة دمى يحركها السيد كيف ما شاء , يشحن عقولها بخرافات بأفكار أكل الدهر عليها وشرب ... الوطن , علمُ الوطن , نشيد الوطن ... مٌقدسات ساهمت في تثبيت كراسي السادة عروش الملوك و الأمراء ...احمي وطنك " فحب الأوطان من الإيمان " طريقة يتبعها السادة ليُثبتوا كراسيهم و ليجثموا على صدور التعساء ...البؤساء الدين اختارتهم السماء  اختارهم رب السماء , ليلعبوا دور الضحية و لكي يُعانوا من التعديب و الحرمان  لم يعد الكلام يدور عن موت الآلاف في سبيل عائشة أو زينب .. صار الكلام اليوم أكثر وقاحة , إنهم لا يخجلون من التصريح أن موت الفقراء اليوم هو في سبيل سادتهم .. هل يرجع سبب تلك الوقاحة إلى أنهم يرددون سخافاتهم منذ وقت طويل حتى اعتادوها , و ربما صدقوها , هم و من يستمع لقد تاهت الثورات ...من صرخة الحرية و إسقاط الأصنام إلى الدفاع عن عائشة و زينب و سنة محمد و شيعة علي من مُحاربة الجوع و الذل و الحرمان إلى قتل الاخر و تعديبه و التنكيل به لأسباب تافهة ...دين ...سياسة ... أفكار لا تغني ولا تسمن من جوع ...  الثورات تاهت .. في  البحرين تاهت بين فتاوى الشيعة و عنف سنة و زبانية الملك , و في اليمن فقدت الثورة و ضاعت في مكان ما بين ألاعيب الديكتاتور السابق و إيران و السعودية و الحوثيين و القاعدة .. الصراع اليوم هو صراع بين السادة , لأن بعضهم يريد انتزاع شيئا مما يملكه سيد آخر .. في حروب السادة هذه لن يجني الفقراء إلا الريح , و الموت , و تأبيد عبوديتهم .. في حروب السادة , لا أمل للفقراء إلا إذا تحرروا من التفاهات التي تبقيهم مقيدين إلى سادتهم كالأقنان .. في حروب السادة لا أمل للفقراء إلا إذا خرج كل السادة خاسرين .. و يبقى أولا و دائما , ضرورة إيقاف الموت العبثي للفقراء في حروب السادة

لا سادة و لا زبي

dimanche 1 février 2015

كتاب " الله و الدولة " الجزء 3 باكونين

وسيبقى الشعب وفق هذه المنظومة عالقًا في ثنائية العالِمْ والمُتعلِّم. ورغم سيادته الظاهرية فقط سيستمر هذا الشعب أداةً لنقل أفكار ووصايا ومصالح الغير. وسيكون بين هذا الوضع وما ندعوه الحرية - أعني الحرية الحقيقية - فجوة، وسيعود القمع والعبودية بأشكالهما القديمة ولكن بشروط جديدة، وحيثما توجد العبودية هناك البؤس والوحشية. ولا توجد المادية الاجتماعية الحقيقية بين الجموع الشعبية فقط ولكن بين الطبقات صاحبة الامتيازات.
ففي سعيهم إلى تأليه كل ما هو إنساني ينتهي المثاليون دومًا بانتصارهم للماديَّة الفظَّة brutal materialism لسبب واحد وبسيط؛ فكل ما هو إلهي يتبخر ويرتفع عائدًا إلى موطنه الخاص، أي إلى الجنة، بينما كل ما هو وحشي يبقى على الأرض.
إذًا الماديَّة الوحشية نتيجة حتمية للمثالية النظريَّة ليس فقط بين من يُبشر بها ممن يعتقدون أنَّ جهودهم مثمرة ولكن بين من يحاولون فهم الحياة في كل المجتمعات المحكومة بالعقائد المثالية.
للوهلة الأولى قد تبدو هذه الحقيقة العامة غريبة رغم أنها تلقائيًا تتضح أكثر مع التفكير بها ولا تنقصنا الدلائل التاريخية التي تثبتها.
فلنقارن آخر حضارتين في العالم القديم، وأعني هنا الحضارة الرومانية والحضارة اليونانية. لو تساءلنا عن أكثر الحضارتين ماديَّة وطبيعية في نشأتهما والأكمل إنسانيًا في مفرزاتهما فسيكون الجواب الحضارة اليونانية دون أدنى شك. ولو تساءلنا عن أكثر الحضارتين مثالية بالمطلق في انطلاقتهما والأكثر تضحية بحرية الإنسان الماديَّة لصالح حرية المواطن المثالية؛ هذه المثالية المُجرَّدة والمُتمثلة في القانون القضائي والتطور الطبيعي للمجتمع البشري وصولاً إلى فكرة الدولة، وعن أكثر الحضارتين وحشية في مفرزاتهما فسيكون الجواب الحضارة الرومانية. كانت الحضارة اليونانية كباقي الحضارات القديمة بما في ذلك الحضارة الرومانية قومية وقائمة على العبودية. لكن ورغم هذين العيبين العظيمين أدركت الحضارة الرومانية فكرة الإنسانية، وقدَّست حياة الإنسان فعليًا، وبذلك حولت القطعان البشرية إلى بشر أحرار، ومن خلال الحرية أنتجت العلوم والفنون والشعر والفلسفة الخالدة وأهم المفاهيم البشرية، ومن خلال الحرية السياسية والاجتماعية خلقت الفكر الحر. وكان كافيًا أن يصل إلى إيطاليا إبان عصر الأنوار بعض هذه الأعمال الخالدة مما حمله المهاجرون اليونانيون معهم، لبعث الحياة والحرية والفكر والإنسانية المدفونة في زنزانة الكاثوليكية المظلمة. ويغدو بذلك "الانعتاق البشري" التسمية الأنسب للحضارة اليونانية، بينما تغدو سمة "الغازية"، مع كل ما للغزو من تبعات وحشية، التسمية الملائمة للحضارة الرومانية التي تحكمها الكلمة الأولى والأخيرة للقياصرة، وهذا يعني انحطاط وعبودية الأمم والبشر.
فلنقارن الآن حضارتين معاصرتين: الحضارة الإيطالية والحضارة الألمانية. الأولى بشكلها العام تُمثل "المادية"، بينما الثانية تُمثل "المثالية" بأكثر أشكالها تجريدًا ونقاءً وسموًا. فلنرَ الآن الثمار الفعلية لكلا الحضارتين.
قدَّمت إيطاليا خدمات جليلة لقضية التحرر البشري. فقد كانت السَّباقة في إنعاش وإرساء مبادئ الحرية في أوروبا، واستعادت استحقاق الإنسانية في النبالة بما قدمته على صعيد الصناعة والتجارة والشعر والفنون والعلوم والفكر الحر. واليوم تعود إيطاليا إلى الأضواء بعد أن سحقتها ثلاث قرون من الاستبداد الإمبراطوري والبابوي ومرَّغتها البرجوازية الحاكمة في الوحل، في حالة يرثى لها مقارنة بما كانت عليه يومًا من الأيام. ورغم هذا فهي لا تختلف كثيرًا عمَّا حلَّ بألمانيا! ففي إيطاليا ورغم هذا الانحطاط، المؤقت كما أرجو، يمكن للمرء أن يعيش ويتنفس بكل إنسانية بين شعب تأصلت فيه الحرية. ويمكن حتى لإيطاليا البرجوازية أن تفخر بأشخاص مثل مازيني Mazzini وغاريبالدي Garibaldi. أمَّا في ألمانيا فلا يمكن للمرء أن يتنفس سوى هواء العبودية السياسية والاجتماعية؛ هذه العبودية الجليَّة فلسفيًا يتقبلها عدد كبير من الناس بكل الاستسلام الطوعي وحرية الإرادة. أمَّا أبطالها، أتكلم هنا عن ألمانيا الحالية - ألمانيا البرجوازية والبيروقراطية والأرستقراطية والسياسية - فهم مغايرون تمامًا لمازيني وغاريبالدي، أبطال كويليام الأول William I وأسياد، ممثلون قساة وسذَّج لربِّ البروتستانت من أمثال بسمارك ومولتك Moltke والجنرالان مانتوفل Manteuffel وفيردر Werder. ومنذ تأسيسها كدولة أخذت علاقات ألمانيا الخارجية طابع الغزو والاحتلال المنتظم والهادئ لدول الجوار مع استعداد تام لمدِّ حالة العبودية الطوعية التي تعيشها في الداخل إلى الخارج. فمنذ ترسيخ دعائم قوتها كقوة أحادية أصبحت ألمانيا تهديدًا وخطرًا يلقي بظلاله على أوروبا. وفي يومنا هذا أصبحت ألمانيا دولة قاهرة ووحشية.
حتى يتبين المرء تلك الفروقات الثابتة والأكيدة بين المثالية النظريَّة والماديَّة العملية يحتاج فقط إلى النظر إلى الكنائس المسيحية، وفي مقدمتها من كل بدٍّ الكنيسة الرومانية والكنيسة الرسولية. فليس هناك ما هو أكثر بعدًا وانفصالاً عن المصالح الدنيوية من عقيدة المسيح وفق الطريقة التي تُبشر بها الكنيسة. وليس هناك ما هو أكثر وحشية من ممارسات الكنيسة المستمرة منذ القرن الثامن حين تأسست كقوة؛ فقد كانت غاية الكنيسة الرئيسية من وراء صراعاتها مع القوى الحاكمة في أوروبا العائدات بالدرجة الأولى والمصالح والسلطة المؤقتتين وامتيازاتهما السياسية بالدرجة الثانية. ولنكن عادلين فالكنيسة كانت أول من اكتشف، في التاريخ الحديث، الحقيقة المسيحية القائلة بأن الثروة والسلطة، أعني بذلك الاستغلال الاقتصادي والقمع السياسي للشعب، لا ينفصلان عن بعضهما خاصة عندما يتعلق الأمر بسلطة تفرضها "المثالية الإلهية" على الأرض. وعندما ترسخت الثروة وتعاظمت السلطة من خلال اكتشاف وخلق مصادر جديدة للثراء، صار هناك ما هو أفضل من الشهادة وإيمان الرسل والنعمة الإلهية. وكان هذا نجاحًا للدعاية المسيحية. هذه حقيقة تاريخية والكنيسة البروتستانتية لا تخفيها أيضًا. وأنا هنا لا أتكلم عن الكنائس المستقلة في بريطانيا وأمريكا وسويسرا ولا عن الكنائس الألمانية الخاضعة والفاقدة لأي استقلالية، التي تنفذ ما يأمرها بها أسيادها وحُكامها وقادتها الروحيين. من المعلوم أنَّ الدعاية البروتستانتية، في بريطانيا وأمريكا على وجه الخصوص، ارتبطت بشكل وثيق مع الدعاية التي أطلقها كلا البلدين فيما يتعلق بالمصالح التجارية. ومن المعلوم أيضًا أنَّ أهداف هذه الدعاية ليست فقط دفع عجلة الازدهار المادي باسم الله في البلدان التي تستهدفها، بل استغلال هذه البلدان وضمان ازدهار مادي تحظى به بعض الطبقات الاجتماعية المعروفة في بلدها بجشعها وتقواها في آنٍ معًا.
في اختصار، ليس من الصعب الإثبات، والتاريخ إلى جانبنا، أنَّ جميع الكنائس، المسيحية وغير المسيحية مدعومة بدعايتها الروحية الهادفة إلى دفع وترسيخ النجاح، نظَّمت نفسها على شكل شركات كبرى من أجل استغلال الشعوب اقتصاديًا مع حماية وبركة إلهية من نوع ما. ونحن نعلم أن كل الدول بكافة مؤسساتها السياسية والقضائية وطبقاتها الحاكمة صاحبة الامتيازات ما هي إلا فروعٌ مؤقتة لهذه الكنائس، وقد مارست بشكل رئيسي الاستغلال نفسه لصالح أقلية حاكمة وبموافقة الكنيسة. ونكتشف في النهاية أنَّ كل ما فعله الربُّ الخيِّر وكل المثاليات الإلهية على الأرض انتهى دومًا وفي كل مكان بترسيخ الازدهار الماديِّ للقلَّة على حساب مثالية الغالبية المتعصِّبة والمتضرعة جوعًا.
نملك حاليًا دليلاً على هذا الشيء، وباستثناء أصحاب القلوب والعقول العظيمة ممن أشرت سابقًا إلى حقيقة أنهم مخدوعون، من هم اليوم أعتى المدافعين عن المثالية؟ أولاً هناك المحاكم المَلكيَّة. في فرنسا وحتى وقت قريب هناك نابليون الثالث وزوجته يوجيني وكل وزراءه السابقين ورجال بلاطه وضُباطه السابقين انطلاقًا من روير Rouher وبازيني Bazaine وحتى فلوري Fleury وبيتري Piétri؛ أي رجال ونساء هذا العالم الإمبريالي ممن مجَّدوا وذووا عن فرنسا، وهناك الصحفيين ورجال العلم من أتباع كاسانك Cassagnac وجيراردين Girardin وديفورني Duverny وفيوليت Veuillot ولوفيريي Leverrier وألكسندر دوما/دوماس Duma؛ والكتيبة السوداء المؤلفة من اليسوعيين واليسوعيات من كافة المشارب؛ وكل برجوازي في فرنسا سواء من الطبقة العليا أو الوسطى؛ والليبراليون الدوغمائيون وغير الدوغمائيين من أتباع كوزيت Guizot وتيير Thier وجولز فيفري Jules Favre وبيلتان Pelletan وجولز سايمون Jules Simon وكل عتاة المدافعين عن الاستغلال البرجوازي. وهناك في بروسيا وألمانيا ويليام الأول الممثل الملكي للرَّبِّ الخيِّر على الأرض مع جنرالاته وضباطه من منطقة بوميرانيا أو غيرها من المناطق، وكل جيشه القوي في إيمانه الديني ومن غزا فرنسا بتلك الطريقة المثالية التي نعرفها جميعًا حق المعرفة. وفي روسيا هناك القيصر وبلاطه وعائلتي مورافيف Mouravieff وبيرغ Berg وكل السفاحين والأنصار الأتقياء في بولندا. في اختصار تعمل كل من المثالية الدينية أو الفلسفية، وهما متشابهتان وتكاد الواحدة منهما تكون تنويعة أو ترجمة حرَّة عن الأخرى، تحت راية القوة الماديَّة والدموية والوحشية للاستغلال المادي السافر. وتعلي المثالية الحقيقية للجموع الجائعة والمقموعة من المثالية النظريَّة وترفع الراية الحمراء للمساواة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية؛ هذه الجموع التي تسعى إلى تحقيق تحررها الأعظم وحقها الإنساني في أخوة كل البشر على الأرض.
فمن هم المثاليون الحقيقيون؟ هل هم المثاليون البعيدون عن التجريد والأقرب للحياة، المثاليون الأبعد عن السماء والأقرب إلى الأرض؟ ومن هم الماديون؟
يبدو أن الشرط الأساسي للمثالية النظرية أو الألوهية هو التضحية بالمنطق الإنساني والتنازل عن العلم. نلاحظ أيضًا أن المرء، بدفاعه عن عقائد المثالية، يجد نفسه أولاً مُجندًا صاغرًا وثانيًا في صف مضطهدي ومستغلي الجموع. وهذان سببان كافيان، كما هو واضح، إلى ابتعاد كل ذي عقلٍ كبير وقلبٍ عظيم عن المثالية. ولكن كيف يحدث هذا لمثاليي عصرنا المتنورين ممن لا ينقصهم العقل ولا القلب ولا النيَّة الصالحة، وممن كرَّسوا وجودهم بالكامل لخدمة الإنسانية، كيف يصرون على البقاء بين ممثلي عقيدة من العقائد وبالتالي يغدون عرضة للإدانة والامتهان؟
لا بدَّ وأنهم متأثرون بدافع قويٍّ جدًا ولا يمكن أن يكون الدافع المنطق أو العلم. فالمنطق والعلم قد صرَّحا بحكمهما الرافض للعقيدة المثالية. ولا يمكن أن يكون الدافع المصالح الشخصية لأنهم رجال مترفعون تمامًا عن مثل هذه الأهواء. إذًا، لا بدَّ أن يكون السبب وجود دافع أخلاقي قوي. لكن ما هو هذا الدافع! لا يمكن أن يكون إلا دافعًا واحدًا. يعتقد هؤلاء المتنورون أن النظريات أو المعتقدات المثالية من الضرورات الملِّحة للكرامة الأخلاقية وعظمة الإنسانية، وأنَّ النظريات المادية تختصر الإنسان إلى مستوى الوحوش.
ولكن ماذا لو كانت الحقيقة عكس ذلك تمامًا!
وكما قلت فكلُّ تطور يتضمن نوعًا من النفي لنقطة انطلاقه. وأساس كل نقطة انطلاق، حسب المدرسة الماديَّة، نفي وهو بالضرورة نفي لكل ما هو مثالي. وانطلاقًا من العالم الحقيقي بكليته أو من أي شيء يقع تحت مُسمى المادة، سنصل بالضرورة إلى المثالية الحقيقية، أي سنصل إلى أنسنة المجتمع حتى نحقق الانعتاق الكامل والشامل. على العكس وللأسباب نفسها يُعد كل ما هو مثالي نقطة انطلاق المدرسة المثالية، وإن انطلقنا من المثالي سنصل بالضرورة إلى التجسيد الماديِّ للمجتمع وإلى تنظيم الاستبداد الوحشي والاستغلال الجائر والدنيء وهذا سيأخذ شكل الكنيسة والدولة. ووفق المدرسة الماديَّة فإن تطور الإنسان ارتقاء تصاعدي، ولكن وفق المدرسة المثالية فإنه ليس سوى انحطاط مستمر.
ومهما كانت المسألة الإنسانية التي نأخذها بعين الاعتبار سنجد أنفسنا دومًا أمام التناقض الأساسي نفسه بين المدرستين. وكما لمَّحتُ سابقًا تنطلق المادية من الحيوانية لتؤسس الإنسانية، أمَّا المثالية فتنطلق من الإلهي لتؤسس العبودية وتحكم على الجموع بحيوانية أبدية. ترفض الماديَّة الإرادة الحرَّة وتنتهي عند إرساء التحرر، بينما المثاليّة وباسم الكرامة الإنسانية تدَّعي الإرادة الحرَّة وتؤسِّس سلطة على أنقاض كل تحرر. ترفض الماديَّة مبدأ التحرر وتعتبره لازمة للحيوانيَّة وانتصارًا للإنسانية. ولكن لا يمكن أن تتحقق غاية والمعنى الحقيقي للتاريخ إلا من خلال التحرر. في اختصار ستجد المثاليين في كل وجه من أوجه المادية العملية، بينما ستجد الماديين في سعيهم وإدراكهم لأعظم المطامح والمعتقدات المثالية.
وكما أسلفت فالتاريخ بالنسبة للمثاليين ليس سوى انحطاط مستمر. يبدؤون بسقطة عظيمة لن ينجوا منها، يبدؤون بقفزة الموت من المناطق الجليلة للفكرة المجردة والمطلقة نحو المادة. ولكن نحو أي مادة؟ ليس نحو المادة النشطة والمفعمة بالحركة الدائمة، المادة المليئة بخصائص القوى والحياة والذكاء كما نراها في العالم الحقيقي، بل نحو المادة المجرَّدة والضعيفة والمختزلة إلى بؤس مطلق بفعل نهب لصوص الفكر من لاهوتيين وميتافيزيقيين الذين سرقوا كل شيء وأعطوه لإمبراطورهم، لربهم؛ نحو مادة محرومة من استقلاليتها الحركية، نحو مادة تُمثل، على النقيض مع فكرة الألوهية، الغباء المطلق والجمود والقصور.
والسقطة عظيمة إلى درجة تصبح فيها الألوهية، كفكرة أو كشخص، تافهة وتخسر للأبد وعيها بذاتها. ووفق هذا الوضع المأساوي يتوجب على الألوهية أن تقوم بالمعجزات! فمن اللحظة التي تغدو فيها المادة جامدة تصبح كل حركة في العالم، حتى أكثر الحركات مادية، معجزة ناتجة فقط عن التدخل الإلهي، ناتجة عن إلهٍ يحكم المادة. وهناك تقبع الألوهية المسكينة والمهانة وشبه المسحوقة بسقطتها، تقبع على مسافة آلاف القرون في حالة إغماء ثم تصحو على مهل في محاولة يائسة للإمساك بذكرى ضبابية عن ذاتها، وتصبح كل حركة من حركاتها نحو المادة نوعًا من الخلق والتكوين والمعجزة الجديدة. ووفق هذه الطريقة تمرُّ عبر درجات المادية والبربرية كلها. وكما في درجات التحول من الغاز إلى مادة كيمائية بسيطة أو مركبة ثم إلى حالة معدنية لتنتهي بالانتشار، يُنظر إلى الأرض على أنها انتقال من حالة الخمول والحيوانية إلى حالة مركزة تأخذ شكل الإنسان. يبدو هنا وكأنها تتحول عائدة إلى نفسها لأنها توقد في داخل كل إنسان شعلة سماوية، جزء من كينونتها الإلهية الخاصة. تلك الشعلة هي الروح الخالدة.
كيف بإمكانك غرز شيء لا مادي بالمطلق في شيء مادي بحت؟ كيف يمكن للجسم أن يحوي ويغلِّف ويحدد ويشد الروح النقية؟ مجددًا هذا سؤال من الأسئلة الخاصة بالإيمان فقط، ذلك التأكيد العنيف والغبي على المجرَّد، فهو الوحيد القادر على حلِّها. إنها المعجزة الأعظم من بين كل المعجزات. رغم هذا يتوجب علينا هنا إيراد الآثار والعواقب الفعلية لهذه المعجزة.
وبعد آلاف القرون من المحاولات العبثية لاستعادة ذاتها وضياعها وتشتتها في المادة التي تمنحها الحياة وتضعها في حالة الحركة، وجدت الألوهية نقطة ارتكازها لتحقيق كثافتها. وليست نقطة الارتكاز هذه سوى الإنسان وروحه الخالدة المسجونة في جسد فانٍ. وكل إنسان يؤخذ كفرد سيكون مُقيَّدًا جدًا وصغيرًا على الإحاطة بالعظمة الألوهية، وسيكون جزءًا صغيرًا؛ جزءًا فانيًا كالكل ولكنه أصغر بكثير من الكل. وهذا يعني أن الكينونة الإلهية، الكينونة اللاماديَّة بالمطلق، العقل، قابلة للتقسيم كالمادة تمامًا. وهذه أحجية أخرى برسمِ الإيمان ليحلَّها.
إن وجدَ الرَّب الكليُّ مكانًا له في كل إنسان سيكون عندئذ كل إنسان إلهًا. وسيكون هناك كمية كبيرة من الآلهة وسيكون كل إله محدود بوجود الآخرين ولكن رغم هذا فهو لامحدود. وهذا تناقض يقتضي ضمنًا دمارًا مشتركًا للبشر واستحالة وجود أكثر من إنسان واحد. أمَّا بالنسبة للأجزاء فليس هناك منطقٌ أكبر من منطق محدودية جزء ما من قبل جزء آخر وصغره مقارنة بالكل. ولكن يواجهنا هنا تعارض آخر؛ فمظاهر المحدودية والصغر والكبر من سمات المادة وليس العقل. ووفق الماديين هذا ليس عيبًا، فالعقل حركة الكينونة الماديَّة الكليَّة للإنسان، وضخامة أو صغر العقل يعتمد على حجم الكمال المادي للكائن البشري. ولكن هذه السمات المتصلة بالمحدودية والعظمة النسبية لا يمكن نسبها إلى العقل كما يتصور المثاليون فالعقل غير مادي بالمطلق وهو موجود بمعزل عن المادة، ولا يمكن أن يكون هناك ضخامة أو صغر أو حتى أية محدودية بين العقول، وما يوجد حقًا هو عقل واحد وهو الله. والقول بأن الأجزاء الصغيرة والمحدودة التي تؤلف الروح الإنسانية خالدة يعني أن نصل إلى ذروة التعارض والتناقض. ولكن هذه قضية خاصة بالإيمان أيضًا فلنتجاوزها.
إذًا، لدينا الألوهية مُقسَّمة ومتوضعة على شكل أجزاء لا نهاية لها في عدد كبير من الكينونات من كافة الأجناس والأعمار والأعراق والألوان. ولكن هذا الوضع مزعج ومحزن لأن الأجزاء الألوهية بالكاد تتآلف عندما تستهل وجودها البشري وتبدأ بافتراس بعضها البعض. علاوة على ذلك ووسط هذا الوضع البربري من الحيوانية المتوحشة تستعيد هذه الأجزاء الألوهية - الأرواح البشرية - الألوهية البدائية كذكرى ضبابية، وتنجذب بشدة نحو الكل، وتسعى نحو بعضها البعض ونحو الكل. إنها الألوهية بحد ذاتها مشتتة وضائعة في العالم الطبيعي والباحثة عن نفسها في الإنسان، وهذا يعني أنها ستتحطم تحت وطأة هذا الكم الهائل من السجون البشرية التي تجد نفسها مبعثرة فيها، وستقترف الحماقة تلو الأخرى عند بحثها عن ذاتها.
والبداية مع مفهوم الفيتشية أو الصنمية fetishism، حيث الألوهية تبحث عن ذاتها وتمجدها مرة في الحجر ومرة في قطعة خشب وأخرى في قطعة قماشية. ولن تنجح غالبًا في تجاوز كونها قطعة قماشية ما لم تشفق عليها الألوهية الأخرى التي لم يُسمح لها بالسقوط في المادة والتي حافظت على روحها النقية في الأعالي السامية أو في المناطق السماوية للمثالي المطلق.
وهنا تواجهنا أحجية جديدة تكمن في انقسام الألوهية بحد ذاتها إلى نصفين متناهين بالتساوي، ولكن يبقى الله-الأب في المناطق اللامادية أبدًا بينما الله الآخر-الابن يسقط في درك المادة. وسنلاحظ مباشرة أن بين هذين الإلهين المفصولين عن بعضهما علاقات متواصلة تنتقل من الأعلى إلى الأسفل ومن الأسفل إلى الأعلى. وتعتبر هذه العلاقات القانون الأبدي الوحيد والدائم، وتُشكل ما يعرف بالروح القدس، وهذا هو السر العظيم والرهيب للثالوث المسيحي بمعناه اللاهوتي والميتافيزيقي المباشر.
ولكن دعونا لا نضيع الوقت على ما يجري في الأعالي ولنرى ما يحدث على الأرض.
أمَّا الله-الأب الذي يراقب من أعالي عظمته الأبدية وعند رؤيته الله-الابن المسكين محطمًا ومشدوهًا بفعل سقطته قد انغمس وضاع في المادة ورغم إدراكه الحالة البشرية فهو لم يستعد ذاته بعد، يقرر أن يساعده. ومن هذا القدر الهائل من الأجزاء الخالدة والإلهية والمتناهية الصغر بمجملها التي وزع الله-الابن نفسه فيها بكل دقة لدرجة نسي فيها نفسه، يختار الله-الأب المفضلين لديه، يختار الأشخاص المُلهمون، رسلُه، "رجال النبوغ الأخلاقي" والمحسنين العِظام ومُشرعي البشرية مثل زرادشت وبوذا وموسى وكونفوشيوس ولاغورغس Lycurgus وسولون Solon وسقراط وأفلاطون المُقدس وفوق الجميع يسوع المسيح - التجسيد الأعظم لله-الابن وآخر المصطفين والمُجسدين في شخص بشري واحد، والحوارين والقديس بطرس والقديس بولس والقديس يوحنا قبل الجميع، وقسطنطين العظيم ومحمد وتشارلز العظيم (ملك الجرمانيين القدماء وإمبراطور روماني لاحقًا - المترجمة) وغريغوري السابع ودانتي ولوثر، وبالنسبة للبعض، فولتير وروسو وروبسبيير ودانتون والكثير من الشخصيات العظيمة والمقدسة تاريخيًا وكل من يستحيل أمام أسمائهم خضوعي، ولكن وبحكم أنني روسي، ألتمس أن يكون القديس نيقولاي من بينهم.
وأخيرًا وصلنا إلى تجلي الله على الأرض، ولكن بالكاد يظهر الله يعود الإنسان إلى العدم. وسيقال بأن الإنسان لم يعد إلى العدم لأنه بحد ذاته جزء من الله. اعذروني! أقرُّ بأنَّ أي جزء من كلٍّ محدد ومحدود ومهما تناهى في الصغر فهو مقدار وعظمة إيجابية. ولكن بمقارنته مع جزء من عظيم لامتناهٍ سيكون بالضرورة صغيرًا لامتناهيًا. فلنضرب مليارات المليارات بمليارات المليارات سيكون الناتج مقارنة بالعظيم المتناهي صغيرًا متناهيًا والصغير المتناهي يعادل الصفر. الله كل شيء وبالتالي يغدو الإنسان وكل العالم الحقيقي المتأصل فيه والكون بمجمله مجرد عدم. لا يمكن الفرار من هذه النتيجة.
عندما يظهر الله يُختصر الإنسان إلى العدم، وكلما ازدادت عظمة الألوهية ازداد شقاء الإنسان. هذا هو تاريخ جميع الأديان وتأثيرات الوحي والتشريع الإلهي. هناك في التاريخ الذي كُتب باسم الله مجموعة مريعة من الرجال المُلهمين إلهيًا - "العباقرة الفاضلون" - ممن أطاحوا بتحرر وكرامة ومنطق ورفاه البشر.
في البداية كان لدينا سقوط الله ولكن لدينا الآن سقوط آخر مهمٌ لنا؛ إنه سقوط الإنسان الذي سببه شبح تجلي الله على الأرض.
لاحظوا عظمة الخطأ الذي يجد مثاليوننا الأعزاء واللامعون أنفسهم فيه. فعندما يأخذونا إلى الله الذي اقترحوه يرغبون في تحقيق ارتقاءنا وانعتاقنا وإجلالانا ولكنهم على العكس يحطمونا ويحطون من قدرنا. ويتخيلون أنهم، باسم الله، باستطاعتهم تحقيق الأخوة بين البشر ولكن على النقيض فهم يخلقون الغرور والازدراء ويزرعون الخلافات والكراهية والحرب ويكرِّسون العبودية. وتأتي مع فكرة الله درجات مختلفة من الوحي الإلهي حيث تُقسم الإنسانية إلى رجال مُلهمون جدًا ورجال مُلهمون ورجال غير مُلهمين. لم تكن كل هذه الدرجات على أي قدرٍ من الأهمية قبل وجود الله. هذا صحيح ولكن بالمقارنة بينهم سيكون هناك رجال أعظم من غيرهم، ولن تكون عظمتهم على أساس الواقع الذي لا يمكن أن يأتي اختلافهم فيه بأي عواقب؛ فاللامساواة الواقعية تضيع وسط الحالة الجمعية عندما لا ترتبط بأي تصور أو مؤسسة قانونية، ولكن سيكون هناك رجال أعظم من غيرهم في الحق الإلهي في الوحي، وهذا بدوره وبشكل مباشر يرسِّخ حالة لامساواة ثابتة ومستمرة ومتحجرة. ويجب على المُلهمين بدرجة أقل أن يستمعوا ويطيعوا المُلهمون العظماء وعلى اللامُلهين أن يفعلوا الأمر عينه مع المُلهمون بدرجة أقل. وهنا نصل إلى مفهوم السلطة الثابتة ويأتي معها مؤسستين أساسيتين للعبودية: الكنيسة والدولة.
ولكن يبقى طغيان المتدينين الأسوأ مقارنة بطغيان الدوغمائين أو المُلهمين. فهم غيورون على مجد ربهم وعلى انتصار أفكارهم إلى درجة لا يبقى مساحة في قلوبهم للتحرر أو الكرامة أو حتى معاناة البشر العاديين-البشر الحقيقيين. وتستنفذ الحماسة الإلهية أرَّق الأرواح وأرهف القلوب حيث ينبع الحب البشري. وبأخذ كل ما قيل في عين الاعتبار فكل ما يحدث في العالم مبني على الفكرة المجردة أو على فكرة الأبدية. فهؤلاء المتدينون يزدردون المادة المتحولة ولكن البشر الحقيقيين، بشر اللحم والعظم، مكونون فقط من المادة المتحولة وكينونتهم أيضًا متحولة، وهي ما أن تغادر أو تستبدل بأخرى لا تعود ذاتها. ولكن ما هو دائم وخالد إلى حدٍّ ما في البشر هو الإنسانية، وهي تتطور باطراد وتغتني بالانتقال من جيل إلى آخر. وأنا أقول بأنها خالدة إلى حدٍّ ما لأنه في اللحظة التي ينتهي ويتفكك فيها كوكبنا؛ وهو سيفنى عاجلاً أم آجلاً؛ فكل شيء يبدأ لا بدَّ أن ينتهي بالضرورة، ويتحول من كل بد إلى عنصر ما يؤسس لبناءٍ جديد في المنظومة الكونية الخالدة، من يعلم ما سيحل بتطورنا البشري؟ على أي حال ولأنَّ لحظة الفناء هذه بعيدة جدًا في المستقبل فسنعتبر أنَّ الإنسانية خالدة مقارنة بمدة الحياة البشرية القصيرة الأمد. ولكن حقيقة الإنسانية المتطورة حقيقية وحيَّة فقط من خلال تجلياتها في أوقات وأماكن محددة وفي بشر أحياء بحق وليس من خلال فكرة الإنسانية العامة.
ولأنَّ الفكرة العامة نوعٌ من التجريد تغدو إذًا نفيًا للحياة الحقيقية. ونتيجة لهذا كما أوضحت في الملحق تمكن العلم فقط من استيعاب وإطلاق تسميات عامة على الحقائق الواقعية وعلاقاتها وقوانينها، أي على كل ما هو ثابت في تحولاته المستمرة، ولم يدركوا أنَّ واقعية الحياة لها جانبها المادي والفردي؛ النابض بالحياة إن جاز التعبير، أي ذلك الجانب القصير الأمد وغير الملموس. يستوعب العلم فكرة الواقعية ولكن لا يستوعب الواقعية بحد ذاتها، ويستوعب فكرة الحياة وليس الحياة. هذا هو حدُّ العلم وهو حدٌّ غير قابل للاختراق لأنه تأسس وفق عضو العلم الوحيد وهو طبيعة التفكير.
وتقوم على هذه الطبيعة الحقوق الراسخة والرسالة العظيمة للعلم، ولكن أيضًا يقوم عليها عجزه الحقيقي وحتى حركته المؤذية عندما يُطالبِ بعجرفة، من خلال ممثليه المرخَّص لهم رسميًا، الحق بإدارة الحياة. أمَّا الرسالة الحقيقية للعلم، من خلال مراقبة العلاقات العامة للحقائق المتحولة والواقعية، فهي إرساء القوانين العامة المتأصلة في تطور ظاهرة العالم الماديِّ والاجتماعي، وإصلاح، إن جاز التعبير، المعالم غير القابلة للتغيير في مسيرة تطور الإنسانية من خلال الإشارة إلى الشروط العامة. فمن الضروري أن تكون هناك مراقبة دؤوبة أو ستكون عاقبة التجاهل والنسيان قاتلة. في اختصار العلم بوصلة الحياة ولكنه ليس الحياة. العلم ثابت وغير شخصاني وعام ومُجرَّد وموضوعي تمامًا مثل القوانين التي تعد مجرد نسخ مُثلى، قوانينًا منعكسية كانت أم عقلية؛ إنها نسخٌ دماغية (أستخدم هذه الكلمة حتى لا ننسى أنَّ العلم بحد ذاته ليس سوى نتاج مادي لعضو مادي، أي الدماغ). فالحياة قصيرة ومؤقتة ولكنها أيضًا نابضة بالواقعية والفرادة والحساسية والمعاناة والأفراح والتطلعات والحاجات والشغف. وتخلق لوحدها وبشكل تلقائي الأشياء والكينونات الحقيقية. بينما يخلق العلم العدم، ويؤسس ويتعرف فقط على إبداعات الحياة. وفي كل مرة ينخرط رجل علم، المنطلق من عالمه المجرَّد، مع شكل حيٍّ في العالم الحقيقي لا يخلق سوى كل ما هو رديء ومجرَّد إلى درجة السخف وجامد ومُجهض تمامًا كالمريد المتحذلق الذي عمل لدى الدكتور فاوست. وهذا يؤدي إلى نتيجة مفادها أنَّ الرسالة الوحيدة للعلم الإضاءة على الحياة وليس إدارتها.
إن سلطة العلم ورجال العلم سواء كانوا وضعيين أو من مريدي أوغست كونت أو من المدرسة الشيوعية الألمانية الدوغمائية، فلن ينجحوا سوى أن يكونوا عاجزين وسخيفين ولاإنسانيين وقساة وظالمين ومستغلين ومجحفين. وأقول الشيء ذاته عن اللاهوتيين والميتافيزيقيين فكلاهما تنقصهما العقلانية والمحبة تجاه الكينونات المتفردة والحيَّة. ولا يمكننا حتى لومهم لأن كل هذا نتيجة مهنتهم. فهم رجال علم وعليهم التعامل والاهتمام بالعموميات فقط حتى يضعوا القوانين[1]. فهم ليسوا رجال علم بالمطلق ولكنهم، بدرجة أكثر أو أقل، رجال الحياة[2].
بأي حال لا يجب أن نعتمد على هذا كثيرًا رغم أننا يجب أن نكون متيقنين من أنَّ "العبد" لن يتجرأ اليوم على معاملة رجل كما يُعامِل أرنبًا، ولكن هناك خوف دائم من أن "العلماء"، ككتلة، إن لم تُعرقَل، قد يعرِّضون البشر الأحياء للتجارب العلمية، بلا شك تجارب أقل قساوة ولكنها غير مستهجنة من قبل ضحاياهم. وإن لم يتمكنوا من القيام بالتجارب على أجساد الأفراد فلن يجدوا أفضل من الجسد الاجتماعي للقيام بهذه التجارب وهذا ما يجب منعه.
يشكِّل "العلماء" في تنظيمهم الحالي ومن خلال التلاعب بالعلم، وبذلك خروجهم من الحياة الاجتماعية، طبقة تتشابه في جوانب عديدة مع جماعة الكهنة. فإلههم هو التجريد العلمي ويشكل الأفراد الأحياء الحقيقيين ضحاياهم وأضاحيهم المقدسة المشروعة.
لا يمكن أن يخرج العلم من دائرة التجريد. وبهذا الصدد فهو دومًا دونيٌّ تجاه الفن الذي بدوره يعنى بشكل خاص بالأنواع والحالات العامة ولكنه يجسدها بطريقة خادعة خاصة به وفق أشكال إن لم تكن حية بمعنى حية حقيقية فلن يثير في مخيلتنا لا الذكرى ولا الشعور بالحياة. يعنى الفن بطريقة ما بفردانية الأنواع والحالات التي ينتجها من خلال فردانيات بدون لحم وعظم، أي فردانيات دائمة وخالدة، تلك التي تملك قوة الإبداع وتعيد إلى أذهاننا الفردانيات الحيَّة والحقيقية التي تظهر وتختفي تحت أنظارنا. الفن إذًا عودة التجريد إلى الحياة بينما العلم قربان الحياة الدائم، هارب وعابر ولكنه حقيقي، على مذبح التجريد الأبدي.
العلم عاجز تمامًا عن فهم فردانية الإنسان كما هو عاجز عن فهم فردانية أرنب، فهو غير متحيز لأي منهما. وذلك ليس لأنه جاهل بمبدأ الفردانية فهو يفهمهما بشكل ممتاز كمبدأ ولكن لا يفهمها كحقيقة. يعلم العلم جيدًا أن كل الأجناس الحيوانية بما في ذلك الجنس البشري ليست موجودة بحقٍّ خارج عدد لا محدد من الأفراد ممن يولدون ويموتون ويفسحون بالتالي المجال لأفراد جدد بشكل مساوٍ. يعلم أيضًا أنه مع الارتقاء من مرتبة الجنس الحيواني إلى جنس أرقى يصبح مبدأ الفردانية أكثر تواترًا ويبدو الأفراد أكثر حرية واكتمالاً. يعلم أيضًا أن الإنسان، أعلى وأرقى الحيوانات على الأرض، يمثل الفردانية الأكثر اكتمالاً وتميزًا، بسبب قدرته على تصور وتحسس وشخصنة، كما في حياته الاجتماعية والخاصة، القانون العالمي. وأخيرًا سيعلم العلم عندما لا تفسده العقائدية اللاهوتية والماورائية والسياسة والقضاء أو حتى الغرور العلمي الضيق الأفق، وعندما لا يصمُّ أذنيه عن الغرائز والتطلعات العفوية للحياة، سيعلم (هذه هي كلمته الأخيرة) بأن احترام الإنسان هو قانون الإنسانية السامي، وبأن الغرض العظيم والحقيقي للتاريخ، غرضه الشرعي الوحيد، هو الأنسنة humanization والانعتاق والحرية والرخاء والسعادة الحقيقية لكل أفراد المجتمع. وإن لم نرد أن نعود إلى الرواية الليبرالية عن المصلحة العامة الممثلة بالدولة وهي رواية تقوم على التضحية المنهجية بالشعب، علينا إذًا وبشكل واضح أن ندرك بأن الحرية والرخاء الجماعي موجودان فقط ضمن حدود تمثليهما لمجموع الحريات والرخاء الفردية.
يعلم العلم كل هذه الأشياء ولكنه لا يستطيع الذهاب أبعد منهم، ولأن طبيعته قائمة على التجريد يمكنه أن يتصور تمامًا مبدأ الفردانية الحقيقية والحيَّة ولكن لا يمكنه أن يتعامل مع الأفراد الحقيقين والأحياء، فهو يركز اهتمامه على الأفراد بشكل عام وليس على بيتر أو جيمس، ليس على هذا الشخص أو ذاك الذي لا يملك أو لا يستطيع امتلاك أي وجود. وأنا أكرر بأن أفراد العلم هم الأفكار المجردة فقط.
الآن وقد صُنع التاريخ ليس من قبل الأفراد المُجرَّدين ولكن من خلال الأفراد الفاعلين والأحياء والعابرين، يتقدم التجريد فقط عندما يصنعه إنسان حقيقي، أمَّا بالنسبة لتلك الكائنات المصنوعة من واقع اللحم والدم وليس من الفكرة فقط، العلم لا قلب له، فهو بالكاد يعتبرهم مواد من أجل التطور الفكري والاجتماعي، لما إذًا سيهتم بالظروف الخاصة لكل من بيتر أو جيمس؟ إن فعل ذلك سيجعل من نفسه أضحوكة، سيتنازل، سيقضي على نفسه. إن رغب بأن يهتم بهم كأبعد من كونهم أمثلة تدعم نظرياته النهائية سيكون أضحوكة. وإن رغب بفعل هذا فمهمته لا تكمن هنا، لا يمكنه فهم الملموس ويمكنه التحرك فقط باتجاه المجرد. إن مهمته تقضي بإشغال نفسه بالأوضاع والظروف العامة للوجود والتطور، سواء للجنس البشري بشكل عام أو لعِرق ما أو شعب ما أو طبقة ما أو مجموعة ما من الأفراد، ويعنى بالأسباب العامة لرخائهم وانحدارهم والوسائل العامة المثلى لحماية تطورهم بكل الطرق. وإن قام بهذه المهمة بشكل شامل وبكل عقلانية فإنه قد قام بكل واجبه وسيكون من المجحف بحقٍّ توقع المزيد منه.
لكنه سيكون أضحوكة أيضًا وسيكون كارثيًا ائتمانه على مهمة هو غير قادر على إنجازها. بما أن طبيعته الخاصة تجبره على تجاوز وجود بيتر وجيمس لن يُسمح لأي أحد أن يقوم باسمه برعاية كلٍّ من بيتر وجيمس، فهو يعاملهما كما يعامل الأرانب تقريبًا، أو بالأحرى سيستمر بتجاهلهم. لكن ممثليه الشرعيين، ولا أعني الأفكار المجردة بل الرجال ممن يحظون بحياة ولديهم اهتمامات حقيقية جدًا وأصحاب التأثير المؤذي التي يمكن للإنسان ممارسته حقًا، سيقوم هؤلاء الممثلون بتهذيب الرجال الآخرين باسم العلم تمامًا كم تم تهذيبهم من قبل الكهنة والسياسيين من كافة الأطياف والمحامين وذلك باسم الله والدولة والحقوق القضائية.
ما أدعو إليه، إلى حد ما، ثورة الحياة على العلم، أو بالأحرى ثورة الحياة على سلطة العلم. ليس الهدف من الثورة تدمير العلم، فهذا سيكون بمثابة خيانة كبيرة للإنسانية، فما يجب فعله هو إعادته إلى مكانه حتى لا يغادره مجددًا. لم يكن التاريخ البشري حتى وقتنا الراهن سوى قربانًا دمويًا من ملايين الكائنات البشرية الضعيفة وكله في سبيل خلاصة مثيرة للشفقة؛ في سبيل الله والبلد والسلطة والدولة والشرف القومي والحقوق التاريخية والحقوق الشرعية والحرية السياسية والمصلحة العامة. هذه هي المسيرة الحتمية والطبيعية والعفوية للمجتمعات الإنسانية حتى الآن. ولا يمكننا التراجع عما حصل، وعلينا أن نقبل بهذا كما نقبل بالنكبات الطبيعية، وأن نؤمن بأنها الطريقة الوحيدة الممكنة لتعليم الجنس البشري. ولأننا لا يجب أن نخدع أنفسنا حتى عندما نعزو الجانب الأكبر من هذا الأمر إلى خداع الطبقات الحاكمة الماكر، علينا أن نقرَّ باستحالة قدرة أقليةٍ ما فرض كل هذه القرابين المرعبة على الجموع ما لم تكن هناك حركة عفوية مشوشة بين الجموع أنفسهم. وهذه الحركة تدفعهم نحو تضحية مستمرة بالذات مرة لخدمة هذه الفكرة المجردة وأخرى لخدمة فكرة مجردة مختلفة من بين كل هذه الأفكار الجشعة، التي تمص دماء التاريخ وتعيش على الدم البشري.
ونحن نستوعب أنَّ هذا مرض اللاهوتيين والسياسيين والفقهاء، فهم لا يعيشون إلا على التضحية المستمرة بالشعوب. ولا يثير استغرابنا أن يبدي الميتافيزيقيون موافقتهم، فمُهمتهم الوحيدة تبرير وتسويغ كل ما هو جائر وسخيف بقدر المستطاع. ولكن أن تُظهر العلوم الوضعية مثل هذه الميول والتوجهات فهذه الحقيقة لا يسعنا إلا أن نرثي لها. ونعزو سبب إقدامها على هذا الفعل إلى سبيين: السبب الأول لأنها نشأت خارج الحياة وممثلة بكتلة ذات امتياز، ويعود السبب الثاني إلى أنها وضعت نفسها كهدف مطلق ونهائي للتطور البشري. وبالنقد الحكيم سنجد أنفسنا في النهاية نقرُّ أنَّ غايته ليست سوى تحقيق غاية أسمى وهي الأنسنة الشاملة للحالة الحقيقية لكل الأفراد الحقيقيين ممن ولدوا ويعيشون ويموتون على الأرض.
الميزة العظيمة للعلوم الوضعية مقارنة بعلوم اللاهوت والميتافيزيقيا والسياسية والحقوق الشرعية وبدلاً من الأفكار المجرَّدة الزائفة والقاتلة التي اقترحتها العلوم الأخرى، هي وضع العلوم الوضعية أفكارًا مُجرَّدة حقيقية تعبر عن الطبيعة العامة لمنطق الأشياء وعلاقاتها العامة والقوانين العامة لتطورها. وهذا يفصلها تمامًا عن العقائد الآنفة الذكر ويضمن لها مكانة عظيمة في المجتمع، وبالتالي ستحدد بمنطق معين الوعي الجمعي للمجتمع. ولكنها تتشابه مع هذه العقائد في جانب واحد ألا وهو الهدف؛ فجميعهم يسعون نحو الأفكار المجردة، ولهذا فهي مدفوعة بطبيعتها لتجاهل الإنسان الحقيقي الذي لا توجد خارجه أية فكرة مجردة. ومن أجل علاج هذا العيب الجوهري على العلوم الوضعية أن تستخدم منهجًا مختلفًا عن منهج العقائد القديمة؛ هذه العقائد التي استغلت جهل الجموع للتضحية بهم بكل استمتاع كقربان من أجل أفكارهم المُجرَّدة. بالمناسبة إن استخدام هذه العقائد مربح لممثليهم من البشر. وبسبب عجز العلوم الوضعية الكامل عن إنتاج أفراد حقيقيين والاهتمام بمصيرهم، عليها رفض أي مطلب بحكم المجتمعات، لأنها لا بدَّ ستتدخل وستستمر بالتضحية بالبشر الأحياء ممن ستنبذهم لصالح الفكرة المجردة التي تؤلف الغاية الوحيدة لاهتماماتها الشرعية.
ما يزال علم التاريخ الحقيقي، على سبيل المثال، غائبًا. ونحن بالكاد اليوم نتلمس بعضًا من ومضاته المعقدة جدًا. ولكن لنفترض بأن هذا التاريخ متطور تمامًا فماذا سيعطينا؟ سيعرض لنا صورة صادقة وعقلانية للتطور الطبيعي وللشروط العامة - الماديَّة والمثالية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية والفلسفية والجمالية والعلمية للمجتمعات التي صنعت هذا التاريخ. ولكن هذه الصورة الشاملة للحضارة البشرية، مهما كانت دقيقة، لن تُظهر أي شيء أبعد من التقديرات العامة وبالتالي المجردة. فالمليارات من الأفراد ممن كانوا موادًا حيَّة ومتوجعة ومن جعلوا هذا التاريخ تاريخًا منتصرًا وبائسًا. إنه تاريخ المنتصرين حقًا بكل المجازر الهائلة والمؤلفة من الضحايا البشرية المسحوقة تحت عجلته. تلك المليارات من الأفراد المغمورين التي لولاها لم تكن لتتحقق النتائج العظيمة للتاريخ، ولولاهم، لا تنسوا، لم يكن التاريخ لينتفع بأي من هذه النتائج. تلك المليارات من الأفراد المغمورين لن تجد لنفسها مكانًا، حتى أصغر الأماكن، في حولياتنا التاريخية. فهم عاشوا وتمَّت التضحية بهم وسحقوا من أجل صالح الإنسانية كفكرة مجردة. هذا كل ما في الأمر.
إذًا هل نلوم علم التاريخ؟ هذا سيكون جائرًا وسخيفًا. لا يمكن فهم الأفراد بالفكر أو بالتأمل أو حتى بالخطاب الإنساني القادر على التعبير عن المجرد فقط، ولا يمكن فهمهم اليوم كما لم يُفهموا في الماضي. وستستمر بالضرورة العلوم الاجتماعية، علوم المستقبل، في تجاهلهم. وكل ما بإمكاننا مطالبتهم به هو إرشادنا إلى الدليل الأمين والموثوق للأسباب العامة المسؤولة عن المعاناة الفردية، ولن يُغفلوا من بين الأسباب التضحية القربانية والتبعية (المتكررة الحدوث كثيرًا للأسف!) التي تُمارس بحق الأفراد لصالح العموميات المجرَّدة، وفي الوقت نفسه سيعرضون لنا الشروط الضرورية لتحقيق الانعتاق الحقيقي للأفراد ممن يعيشون في مجتمع ما. هذه هي مهمتهم وتلك هي حدودهم التي سيغدو عمل العلوم الاجتماعية بعيدًا عنها مقصورًا وقاتلاً. بعيدًا عن هذه الحدود سيغدو ممثلوه المرخصون عقائديين ومُدعين سلطويين، سيغدون كهنة. وقد حان الوقت الذي يجب أن ننتهي فيه من كل الباباوات والكهنة. لم نعد نريدهم حتى لو أطلقوا على أنفسهم اسم الديمقراطيين الاجتماعيين.
 
ترجمة: عزة حسون

dimanche 25 janvier 2015

الله والدولة الجزء الثاني باكونين

  وقد عرضت السبب الرئيسي والفعلي الكامن وراء السيطرة التي تمارسها المعتقدات الدينية على الجموع. وتدل هذه النزعات الصوفية على عدم الرضى العميق في القلب أكثر منه على السخط في العقل. وهي نوع من الاحتجاج الغريزي والعاطفي للكائن البشري على ضيق وتفاهة وأوجاع وعار وجود تعيس. وقد قلت لتوي إن هناك علاجًا واحدًا لهذا الداء وهو الثورة الاجتماعية.
في هذا الوقت حاولت أن أظهر الأسباب المسؤولة عن الظهور والتطور التاريخي لهذه الهلوسات الدينية في الضمير البشري. وغرضي هنا أن أعالج مسألة وجود الله أو الأصل المقدس للعالم وللبشر، من منطلق وحيد ألا وهو النفعية الأخلاقية والاجتماعية ولكن سأقول بخصوص هذا القليل بغرض شرح أفكاري حول الأسس النظرية لهذا المعتقد.
كل الأديان مع آلهتها وأنصاف آلهتها وأنبياءها ومخلصيها وقديسيها من إنتاج خيال الرجال الساذج ممن لم يتطورا تمامًا، ولم يحكموا السيطرة على ملكاتهم العقلية. بالتالي، فالجنة الدينية ما هي إلا سراب يتم تمجيده بالجهل والإيمان، ويكتشف فيها الإنسان صورته الحقيقية ولكن صورة مضخَّمة ومعكوسة. إن تاريخ الدين وتاريخ ظهور وعظمة وانحدار الآلهة التي تعاقبت في المعتقد البشري ليست سوى تطورًا للذكاء الجمعي والضمير البشري. وحالما يكتشف البشر عبر مسار تطورهم التاريخي، في دواخلهم أو في الطبيعة الخارجية، قوة ما أو خصوصية ما أو حتى أي عيب فسرعان ما يعزون ذلك إلى آلهتهم التي أمعنوا بتضخيمها وتكبيرها كثيرًا بأسلوب طفولي وبضغط وهمهم الديني. وبفضل هذا التواضع والكرم الديني للإيمان ووفرة الرجال السذج اغتنت الجنة بالملذات الأرضية، وبالتالي فكلما زاد ثراء الجنة كلما زاد بؤس الإنسانية والحياة على الأرض.
وعند تنصيبه إلهًا حصل الله وبشكل طبيعي على صفة "السبب" و"الوسيط" و"المخلص". بالتالي فالعالم لا شيء والله كل شيء، بينما الإنسان، صانع الله الحقيقي ومن أخرجه بدون علم من الفراغ سجد أمامه وعبده وعيَّن نفسه مخلوقًا وعبدًا له.
إنَّ المسيحية على وجه الخصوص دين بكل ما للكلمة من معنى، لأنها تُظهر بالكامل طبيعة وجوهر كل النظم الدينية المبنية على الفقر والعبودية وفناء الإنسانية من أجل الألوهية.
ولأن الله كل شيء فالعالم الحقيقي والبشر لا شيء. ولأن الله هو الحقيقة والعدالة والطيبة والجمال والقوة والحياة فالإنسان هو الزيف والظلم والشر والقبح والضعف والموت. ولأن الله هو السيد فالإنسان هو العبد. ولأن الإنسان عاجز عن ايجاد العدالة والحقيقة والحياة الأبدية بجهده الشخصي فهو لذلك بحاجة إلى التجلي الإلهي. ولكن من يقول بالتجلي الإلهي يقول بالمخلصين والأنبياء والكهنة والمُشرعين ممن يستقون الإلهام من الله ذاته، وعندما يدرك هؤلاء أنهم ممثلو الألوهية على الأرض وأنهم المرشدون الدينيون للبشرية ممن اختارهم الله ليقودوا طريق الخلاص فإنهم بالضرورة يمارسون سلطة مطلقة، وبالتالي يدين كل البشر لهم بالولاء. فالمنطق البشري أبعد من أن يواجه المنطق الإلهي، ولا تقوم أي عدالة أرضية بوجود العدالة الإلهية. ولكونهم عباد الله فيجب أن يكون البشر عباد الكنيسة والدولة بما أن الكنيسة من يقوم بترسيم الدولة. ومن بين جميع الأديان الأخرى الحالية منها والمندثرة فهمت المسيحية هذه الحقيقة. ولن نستثني الديانات الشرقية القديمة التي كانت حصرًا على أمم معينة ذات امتيازات. طمحت المسيحية إلى احتضان البشرية بأجمعها وادعت الكاثوليكية الرومانية من بين جميع الطوائف المسيحية هذا الطموح بمنطق حازم. ولهذا اعتبرت المسيحية الدين المطلق، الدين النهائي، والكنيسة البابوية والرومانية الكنيسة الوحيدة المقدسة والشرعية والمتماسكة من بين جميع الكنائس.
ومع احترمنا لكل الماورائيين والمثاليين الدينيين والفلاسفة والساسة والشعراء فإن فكرة الله تتضمن خطف المنطق والعدل البشري؛ إنه النفي الأكثر حسمًا للحرية البشرية وينتهي بالضرورة إلى عبودية الجنس البشري نظريًا وعمليًا.
إذًا، ما لم نرغب بعبودية وانحطاط الجنس البشري كما يريد اليسوعيون والكهنة والميثودولوجيون البروتستانت فلن نصل إلى أدنى اتفاق حول الله في اللاهوت وعلم الماورائيات. ومن يبدأ وفق هذه الأبجدية الصوفية بحرف الألف فسينتهي بحرف الياء، ومن يرغب بعبادة الله فليس عليه أن يلجأ إلى أي أوهام طفولية حول الأمر بل عليه وبكل شجاعة أن يرفض حريته وإنسانيته.
إن وجد الله فالإنسان عبده، إذًا؛ إن استطاع الإنسان وعليه أن يكون حرًا فإن الله لن يوجد.
أتحدى أيًّا كان أن يتجنب هذه الحلقة، وبالتالي ليختاروا.
من الضروري أن نوضح الطريقة التي تنتهجها الأديان للحط من وإفساد الناس؟ إنها تقوم بتدمير منطقهم، وهو الأداة الرئيسية في الانعتاق البشري، وتعمل على اختصارهم إلى مجرد حمقى. وبهذا تكتمل الشروط الرئيسية لتحقيق عبوديتهم. تهين الأديان العمل البشري وتجعله شكلًا أو مصدرًا للعبودية. يقتلون الكبرياء والكرامة البشرية ويحمون الأذلاء والبسطاء فقط. يكبحون في قلب كل أمة أي شعور بالأخوة البشرية ويملأوه بدلًا من ذلك بالقسوة الإلهية.
كل الأديان وحشية وتأسست على الدماء. فكلها مبنية على فكرة التضحية؛ أي قائمة على القربان الأبدي للإنسانية من أجل الثأر الإلهي اللامحدود. وفي هذا اللغز الدموي الإنسان هو دومًا الضحية وهو الكاهن، هذا الكاهن الإنسان أيضًا ولكنه إنسان يمتاز بالنعمة الإلهية لكونه الجلاد الإلهي. وهذا يوضح لما كل الكهنة في كل الأديان هم الأفضل والأكثر إنسانية والألطف، وأنهم في أعماق قلوبهم، إن لم يكن في قلوبهم ففي مخيلتهم وفي عقولهم (ونحن نعلم تأثير كليهما على قلوب البشر) هناك شيء ما قاسٍ ودموي.
ما من أحد أدرى بهذه الحقيقة أكثر من المثاليين المعاصرين المشهورين. فهم رجال متعلمون يعلمون التاريخ ظهرًا عن قلب، وهم في الوقت ذاته رجال أحياء، أرواح عظيمة تفيض بالمحبة الصادقة والعميقة للمصلحة البشرية. وقد رفضوا ووصموا كل هذه الآثام وكل جرائم الدين بكل بلاغة لا نظير لها. وأنكروا أي نوع ديني من الاتحاد مع الله ومع ممثليه في الماضي والحاضر وعلى الأرض. فالله الذي يعبدونه أو يعتقدون أنهم يعبدونه يختلف عن الآلهة الحقيقية في التاريخ في أنه ليس إلهًا تامًا ومعرَّفًا لاهوتيًا أو ميتافيزيقيًا. فهو ليس الكائن السامي الخاص بروبسبير وجان جاك روسو أو الإله الوجودي لسبينوزا أو حتى إله هيغل الخارق والخفي والعريق. فهم معنيون بعدم اعطاءه أي تعريف واضح بدفع من شعورهم أن أي تعريف سيخضع هذا الإله لسلطة النقد التحليلية. ولن يقولوا إن كان هذا الإله شخصي أم لا، سواء خلق العالم أم لم يخلقه،  ولن يتكلموا عن عنايته الإلهية. فكل ما قد يقال قد يهدده وهم قانعون بكلمة "الله" ولا شيء أكثر. لكن ما هو "الله" الخاص بهم؟ هو ليس بفكرة، هو إلهام.
إنه الاسم الشامل لكل ما هو عظيم وصالح وجميل ونبيل وإنساني بالنسبة لهم. ولكن لما لا يقولون بكل بساطة "الإنسان". السبب وجود بشر مثل ملك بروسيا ويليام ونابليون الثالث وهذا يزعجهم بشدة. الإنسانية الحقيقية عبارة عن مزيج من كل ما هو سامٍ وجميل مع كل ما هو تافه ومتوحش في العالم. فكيف يتغلبون على هذا؟ لماذا يقولون إن هذا إلهي وذاك وحشي، معتبرين أن الألوهية والحيوانية قطبان منفصلان بينهما تقع الإنسانية. ربما لن يفهموا أو لن يكون باستطاعتهم استيعاب فكرة أن المصطلحات الثلاث ما هي إلا مصطلح واحد، وبفصلها لا يتحقق سوى سحقها.
يبدو أنَّ المنطق ليس أحد نقاط قوتهم، وبالإمكان القول أنهم يبغضونه. وهذا ما يميز الميتافزيقيين الموحدين، ويمنح أفكارهم صبغة المثالية العملية والمستوحاة من التجارب أكثر من كونها نتيجة لتطور حاد في الفكر البشري. ويمكنني القول إنهم يستقونها من الانفعالات التاريخية والجمعية والفردية للحياة. هذا يعطي دعايتهم مظهر الثراء والسلطة الفعالة، ولكنه مجرد مظهر لأن الحياة بحد ذاتها تصبح عقيمة عندما يتم شلُّها بالتناقض المنطقي.
هذا التناقض المنطقي يكمن هنا في أنهم يتمنون وجود الله ويتمنون وجود الإنسانية، وهم مستمرون في ربط المصطلحين اللذين في حال فصلهما قد يلتقيان مجددان ليدمرا بعضهما. يقولون بصوت واحد: "الله وحرية الإنسان"، "الله وكرامة وعدالة ومساواة وأخوة ورفاه البشر" - بغض النظر عن المنطق القاتل في هذه الكلمات والكامن في فكرة أن وجود الله يعني أن كل هذه الأشياء محكومة بوجوده. فإن وجد الله فسيكون بالضرورة السيد الأبدي والسامي والمطلق، وإن وجد مثل هذا السيد سيكون الإنسان عبدًا، ولن تكون العدالة أو المساواة أو الأخوة أو الرفاه في متناوله. وعبثًا يطيحون بالمنطق السليم وبكل تعاليم التاريخ، ويقدمون الله الذي تحركه المحبة الرقيقة للحرية البشرية. ذلك السيد أيًّا يكن وبغض النظر عن مدى التحرر الذي يرغب بإظهاره يبقى في النهاية ودومًا السيد. فمجرد وجوده يعني عبودية كل من يقع تحته. بالتالي، إن وجد الله فإنه سيخدم الحرية البشرية بطريقة واحدة ألا وهي بالتوقف عن الوجود.
وكعاشق غيور للحرية البشرية وراغب في تحقيق الشرط المطلق والموجود في كل ما نحترمه ونقدسه في الإنسانية سأقوم بعكس عبارة فولتير: "إن وجد الله حقًا فمن الضروري أن نقوم بإلغائه".
وهذا المنطق الصريح الذي تعبر عنه هذه الكلمات واضح بما يكفي لكي لا يتطور إلى اشكالية. ويبدو لي من المستحيل أن هؤلاء الرجال المتنورين والمحترمين لم يُصعقوا بهذا، ولم يتنبهوا إلى التناقض الذي وضعوا أنفسهم فيه عندما تكلموا عن الله والحرية البشرية كشيء واحد. وبتجاهلهم لهذا لا بد أنهم اعتبروا هذا التناقض أو الترخيص المنطقي ضروري من أجل خير الإنسانية.
قد يكون السبب في أنهم عندما تكلموا عن الحرية كشيء محترم وعزيز بنظرهم لم يتحدثوا عنها بالمعنى الذي نستخدمه نحن الماديون والاشتراكيون الثوريون. في الحقيقة لا يتكلمون عن الحرية بدون أن يضيفوا كلمة أخرى ألا وهي السلطة وهي كلمة نكرهها جميعًا من كل قلبنا.
ما هي السلطة؟ هل هي السلطة الحتمية للقوانين الطبيعية التي تعبر عن نفسها في التعاقب الثابت للظواهر في العوالم المادية والاجتماعية؟ في الواقع إن الثورة على هذه القوانين ليست محرمة فقط بل مستحيلة. ولربما أساءنا فهم هذه القوانين أو لم نعرفها حق المعرفة، ولكننا لا نستطيع عدم اطاعتها لأنها الشروط الأساسية لوجودنا؛ فهي تغلفنا وتخترقنا وتنظم كل تحركاتنا وأفكارنا وتصرفاتنا. وحتى عندما نعتقد بأننا نعصي هذه القوانين فإننا حقًا نبرهن على قوتها العظيمة.
أجل إننا عبيد لهذه القوانين. ولكن في مثل هذه العبودية، أو ربما هي ليست عبودية، ليس هناك أي امتهان. لأن العبودية تفترض وجود سيد خارجي، مُشرِّع ما يخرج منه من يطيعون أوامره. هذه القوانين لا توجد خارجنا، بل هي متأصلة فينا وتأسس وجودنا الكامل، وجودنا المادي والفكري والأخلاقي. نعيش ونتنفس ونتصرف ونفكر ونتمنى فقط من خلال هذه القوانين. بدونها نحن لا شيء، غير موجودون، وبالتالي من أين سنأتي بالقوة والرغبة في التمرد عليها؟
هناك حرية واحدة ممكنة للإنسان عندما يتعلق الأمر بالقوانين الطبيعية، هذه الحرية هي معرفة هذه القوانين وتطبيقها بلا حدود وبشكل منسجم مع غاية الانعتاق الجمعي والفردي أو مع الأنسنة humanization التي نطمح إليها. ولهذه القوانين عند فهمها سلطة ما لا يمكن للجموع البشرية تفنيدها ببساطة. ولا بد أن يكون الفرد الذي يتمرد على هذه القوانين الثابتة أحمقًا أو لاهوتيًا أو على الأقل ميتافزيقيًا أو رجل قانون أو عالم اقتصاد برجوازي. ولا بد أن يكون الإيمان ما يدفع من يتخيل بأن النار لا تحرق أو أن الماء لا يُغرق إلى التفكير بوجود خدعة ما كامنة في قوانين الطبيعة. إن محاولات التخيل الأحمق بوجود خدعة ما حالة استثنائية بلا شك، ويمكننا الجزم عمومًا بأن الجموع البشرية على دراية مطلقة تمامًا بملكة الحس السليم التي هي حاصل ادراك جميع القوانين الطبيعية.
ولكن المصيبة العظيمة بقاء عدد كبير من القوانين الطبيعية، التي أثبتها العلم، مجهولة للجموع. وهذا بفضل رقابة ووصائية هذه الحكومات التي تشكلت لتلبية مصالح وخير الشعوب. تبرز مشكلة أخرى وهي أنَّ الجزء الأعظم من القوانين الطبيعية مرتبط بتطور المجتمع البشري، وهذه القوانين الضرورية والثابتة والحتمية كالقوانين التي تحكم العالم المادي، لم يثبتها ويقرها العلم كما ينبغي.
عندما يُقرُّ العلم هذه القوانين ستنتقل، عبر نظام تعليم وتوجيه شعبي شمولي، إلى وعي الجميع، وبالتالي ستُحسم آنذاك مسألة الحرية. وقتها ستقرُّ أكثر السلطات عنادًا أنه ما من حاجة إلى التنظيم السياسي أو التوجيه أو التشريع. هذه الحاجات الثلاث التي تأتي من إرادة المهيمن عليهم أو من تصويت البرلمان المنتخب بأصوات الغالبية. هذه الحاجات الثلاث التي يجب أن تنسجم مع نظام القوانين الطبيعية، ولكن هذا ما لم ولن يحدث. فهي حاجات قاتلة ومعادية لحرية الجموع بناءً على الحقيقة القائلة بأن منظومة قوانين فُرضت خارجيًا وبالتالي هي استبدادية.
إذًا فحرية الإنسان هي في إطاعته للقوانين الطبيعية التي يدركها بنفسه وليس لأن إرادة خارجية، إلهية كانت أم بشرية، جمعية أو فردية، فرضتها عليه.
فلنفترض أن هناك مُجمَّعًا مؤلفًا من ألمع ممثلي العلم ولنفرض أن هذا المُجمَّع يحكمه التشريع ومؤسسة المجتمع، فهو ومدفوعًا بالحب الأنقى للحقيقة لن يأتي بشيء سوى بالقوانين التي تنسجم تمامًا مع الكشوفات العلمية الحديثة. وأنا بأي حال أصرُّ على أن هذا التشريع وهذه المؤسسة سيكونان فظاعة وذلك لسبيبين. أولًا، لأنَّ العلم الانساني ناقص وبمقارنة ما تم اكتشافه مع ما لم يكتشف بعد سيبدو العلم الإنساني في مهده فقط. إذًا، لو حاولنا فرض نوع من التوافق التام والحصري بين الحياة العملية للبشر، الجمعية منها والفردية، والكشوفات العلمية الحديثة فسنكون بذلك قد حكمنا على المجتمع والأفراد بمعاناة أشبه بالشهادة التي ستنتهي لاحقًا بتشويههم وخنقهم. والحياة ستبقى أبدًا أعظم من العلم.
ثانيًا، إن أطاع مجتمع ما التشريع المنبثق عن المُجمعات العلمي فقط لأن هذا التشريع المنبثق فُرض باسم العلم المقدس وليس لأنه تمَّ فهم الجانب العقلاني لهذا التشريع (في هذه الحالة سيكون وجود المجمع العلمي بلا جدوى)، سيكون هذا المجتمع مجتمع وحوش. سيكون أشبه بنسخة ثانية عن الارساليات التي توجهت إلى البارغواي، وخضعت لسلطة اليسوعيين. ومن كل بد سينحدر هذا المجتمع بسرعة إلى مستوى الغباء المهين.
لا يزال هناك سبب ثالث يجعل من هكذا حكومة مستحيلة. فعندما يتَقلَّد مُجمعٌ علمي ما، حتى لو كان مكونًا من ألمع الرجال، منصبًا ما أو سلطة ستكون نهايته الانحلال الأخلاقي والفكري. حتى في يومنا وبالرغم من الامتيازات القليلة الممنوحة يبدو أن نهاية كل المجمعات العلمية حتمية. فمن اللحظة التي يصبح فيها أي نابغة أكاديميًا، أي يصبح عالمًا مُرخصًا بشكل رسمي، لا بد له من السقوط في هوة البلادة وفقدان عفويته وبسالته الثورية وتلك الطاقة المشاغبة والوحشية الخاصة بأعظم العباقرة ممن يدعون إلى تدمير العوالم القديمة المترنحة ووضع أساسات عالم جديد. ومقابل التهذيب الذي يكتسبه بفضل الحكمة النفعية والعملية يفقد قوة الفكر. وبكلمة واحدة سيصاب بالانحلال.
ومع كل امتياز أو منصب امتيازي يموت في الرجال عقلهم وقلبهم. فالرجل صاحب الامتياز السياسي أو الاقتصادي رجل مسلوب العقل والقلب. وهذا عرف اجتماعي شامل في جميع الأمم والطبقات والشركات والأفراد. إنه قانون المساواة وشرط الحرية والمساواة الأسمى. والغاية الأساسية من وراء هذا الطرح هي توضيح هذه الحقيقة بكافة تجلياتها في الحياة الإنسانية.
ولكن سينتهي الأمر بهذه الكتلة العلمية التي استلمت زمام حكومة المجتمع إلى تكريس نفسها إلى شيء آخر غير العلم وهذا الشيء هو، كما هي حال كل السلطات المؤسسة، وجودها الدائم من خلال صناعة مجتمعًا أكثر غباءً وبالتالي حاجة أكبر إلى وجود حكومة وقيادة.
وما ينطبق على المُجمعات العلمية ينطبق على مكونات الهيئات التشريعية حتى تلك المنتخبة. ولن يمنع الحالة التشريعية التي تسمح بتجديد تركيبتها من التحول بعد عدة سنين إلى كتلة مكونة من سياسيين ذوي امتيازات، وإن لم تكن امتيازات يمنحها القانون. سيتحولون إلى أشخاص يكرسون أنفسهم بشكل حصري لإدارة الشؤون العامة للبلد ويتحولون في النهاية إلى نوع من الارستقراطية أو الأوليغارشية السياسية. لاحظ ما يحدث في الولايات المتحدة وسويسرا.
فالتشريع والسلطة لا ينفصلان عن بعضهما، ووجودهما يحقق عبودية المجتمع وانحلال المشرعين أنفسهم.
هل يعني هذا أنني أرفض أي شكل سلطوي؟ أنا بعيد تمامًا عن هكذا تفكير. على سبيل المثال إن كان لدي أمر متعلق بالأحذية سأستشير اسكافيًا، وإن كان هذا الأمر له علاقة بالأبنية أو السكك الحديدية فسأستشير مهندسًا معماريًا. فأي نوع خاص من المعرفة يتطلب عالمًا مختصًا. ولكن بالرغم من هذا لا أسمح للإسكافي أو للمهندس أو للعالم بفرض سلطتهم علي. أصغي إليهم بالتأكيد بكل حرية وبكل الاحترام الذي يستحقه ذكاءهم وشخصيتهم ومعرفتهم، ولكن احتفظ في الوقت ذاته بحقي الثابت في النقد. فأنا لا أكتفي باستشارة سلطة ما في مجال ما، بل أستشير مجموعة من السلطات، وأقارن أراءهم وأختار من بينها الرأي الأسلم. ولكن لا أعتقد بوجود أي سلطة معصومة عن الخطأ حتى عندما يتعلق الأمر بأمور اختصاصية. وبالتالي هذا يعني أن أي احترام لصدق ونزاهة هذا الفرد أو ذاك لا يعني البتة أنني أؤمن به ايمانًا مطلقًا. سيكون هذا الايمان المطلق قاتلاً لمنطقي وحريتي وحتى لنجاحي في تعهداتي. فهذا الإيمان المطلق سيحولني إلى عبد غبي وإلى مجرد أداة يستخدمها الآخرون لفرض إرادتهم ومصالحهم.
إن انحنيت لسلطة الاختصاصين وأبديت استعدادًا لاتباع، إلى حد ما وبالقدر الكافي، توجيهاتهم وحتى أوامرهم فإن ذلك سيكون لأن سلطتهم لم يفرضها أحد علي، لا إنسان ولا إله. وإن فرضت علي فإنني سأتمرد وسأدعو أن يأخذ الشيطان كل نصائحهم وأوامرهم وخدماتهم، وأنا على ثقة بأنهم سيجعلونني أدفع الثمن، وسيسرقون حريتي واحترامي لذاتي مقابل فتات الحقيقة المغلف بأكوام الأكاذيب.
سأنحني لسلطة الاختصاصين إن فرضها علي منطقي وليس منطقهم. وأنا أعي عجزي عن استيعاب قسم كبير من المعرفة البشرية بكافة تفاصيلها وسيرورة تطورها. ولا يستوي الذكاء العظيم مع فكرة الاستيعاب الشمولي للكل. ونتيجة لهذا، في العلم كما في الصناعة تبرز أهمية تقسيم العمل. أنا آخذ وأعطي، فهذه هي الحياة البشرية. الكل يدير ويدار في نفس الوقت. وينجم عن هذا غياب أي سلطة ثابتة ومستمرة أمام التبادل المستمر والمشترك والمؤقت والطوعي للسلطة والتبعية.
ولهذا السبب بالتحديد لا أعترف بأي سلطة كونية ثابتة ودائمة لأنه لا يوجد إنسان كامل قادر على استيعاب كل العلوم وجوانب الحياة الاجتماعية بكافة تفاصيلها الغنية. وإن وجد مثل هذا الكمال في إنسان واحد، وأراد هذا الانسان أن يفرض سلطته علينا، فمن الضروري عندئذ اقصاء هذا الإنسان بعيدًا عن المجتمع، لأن سلطته عندئذ ستؤدي إلى تحويل الآخرين إلى مجرد عبيد وحمقى. وأنا هنا لا أعني أن يسيء المجتمع معاملة رجال العلم كما حدث من قبل، ولا أعتقد بضرورة اطلاق العنان لهم واعطاءهم امتيازات أو حقوقًا حصرية وذلك لعدة أسباب. أولًا، سيقود هذا إلى عدم التمييز بين مدعي العلم ورجاله الحقيقين. ثانيًا، بوجود نظام الامتيازات سيتحول أيًا كان إلى مدعٍ حتى لو كان هذا الشخص رجل علم حقيقي، مما يعني فساد وانحلال هذا الرجل بالضرورة.
باختصار، نعترف بالسلطة المطلقة للعلم لأن الهدف الوحيد للعلم هو إعادة الإنتاج الفكري الجاد والمُنظَّم للقوانين الطبيعية المتأصلة في الحياة المادية والفكرية والأخلاقية لكلا العالمين: العالم المادي والعالم الاجتماعي. فهما في الحقيقة عالم واحد وعالم طبيعي واحد. وخارج هذه السلطة الشرعية الوحيدة، وهي شرعية لأنها عقلانية ومنسجمة مع الحرية البشرية، نعتبر باقي السلطات مزيفة واستبدادية وهدَّامة.
نعترف بالسلطة المطلقة للعلم، ولكن نرفض عصامية وكمال رجل العلم. في كنيستنا (نحن رجال العلم) هذا إن سمحت لنفسي باستخدام هذا التعبير الذي أبغضه - الكنيسة والدولة وجهان لعملة واحدة. في كنيستنا كما في الكنيسة البروتستانتية لدينا رئيس، مسيح متخفٍ. وكالبروتستانت، ربما بشكل أكثر منطقية، ليس لدينا بابا ولا مجمع كنسي ولا اجتماعات سرية لكرادلة عصاميين ولا أساقفة ولا حتى قساوسة. فمسيحنا يختلف عن المسيح البروتستانتي والمسيح الحقيقي. فالأخير كائن شخصي بينما مسيحنا كائن لا شخصي. المسيح الحقيقي، الذي أكمل ماضيه الأبدي، يقدِّم نفسه على أنه كائن كامل، بينما اكتمال وكمال مسيحنا/العلم يتحقق في المستقبل. إذًا وباعترافنا بالعلم المطلق كسلطة مطلقة لا نهدد حريتنا بأي شكل.
وما أعنيه "بالعلم المطلق" ذلك العلم الذي سيعيد إنتاج الكون ومنظومة القوانين الطبيعية الناجمة عن التطور المستمر للعالم مع مراعاة أدق التفاصيل. من الواضح بمكان أن هذا العلم، هذا الهدف السامي من وراء كل محاولات العقل البشري، لن يتحقق مطلقًا. إذًا، سيظل مسيحنًا إلى الأبد عملًا غير منتهٍ، وسيأخذ معه بالتالي خيلاء كل من يمثله بيننا. وفقط عبر ذلك الرب/الابن الذي باسمه يفرضون علينا سلطتهم الوقحة والحذقة يمكننا أن نناشد ذلك الله/الأب والممثل الحقيقي للعالم والحياة، والذي أمامه لا يعدو ذلك الابن سوى تعبير ناقص. بينما نحن، الكائنات الحقيقية والحيَّة والعاملة والمكافحة والمحبة والطموحة والمستمتعة والمتألمة مجرد ممثلين لهذا "التعبير الناقص".
وفي الوقت الذي نرفض فيه سلطة رجال العلم المطلقة والشمولية والعصامية ننحني أمام السلطة المحدودة والمبجلة لكن النسبية والعرضية لممثلي العلوم الاختصاصية. ونحن نطلب فقط استشارتهم ونشكرهم على المعلومات القيمة التي يمدونا بها، شرط أن يكونوا مستعدين للاستعانة بنا في أمور نحن على دراية بها أكثر منهم. عمومًا لا نطلب أكثر من وجود علماء متنورين وأصحاب خبرات وعقول وقلوب عظيمة، وأصحاب نفوذ طبيعي يمكننا تقبله بكل حرية، وليس نفوذًا مفروضًا باسم سلطة رسمية من أي نوع، دينية كانت أم دنيوية. نقبل بكل السلطات الطبيعية، ونقبل بنفوذها، ولكن لا نقبل بالحقوق لأن السلطة والنفوذ المترتب عنها سيتحول إلى نوع من القمع وهذا بدوره سيفرض علينا، كما وضحت سابقًا، العبودية والتفاهة.
باختصار، نرفض كل التشريعات والسلطات وأي نفوذ ذي امتياز قانوني ورسمي، حتى لو كان نتيجة اقتراع عام لأن هذا سيكون في صالح أقلية مسيطرة مكونة من المستغلين لمصالح الغالبية العظيمة التي تخضع لهم. وهذا هو المعنى الحقيقي لكوننا أناركيين.
يفهم المثاليون المعاصرون السلطة بطريقة مختلفة. وبالرغم من أنهم متحررون من الخرافات التقليدية الموجودة في كل الأديان الحالية لكنهم يمنحون السلطة معنى ألوهيًا مطلقًا. فمفهوم السلطة لديهم ليس نوعًا من الحقائق المتجلية بفعل المعجزات، ولا حقيقة مثبتة علميًا. السلطة لديهم، قائمة إلى حد ما، على الاستدلال شبه الفلسفي وعلى العاطفة الشعرية الخالصة بشكل مثالي. ودينهم كان وما زال محاولة تأليه كل ما يؤسس الإنسانية في البشر. هذه الفكرة هي نقيض ما نحاول أن نفعله الآن. ودفاعًا عن الحرية والكرامة والنماء الإنساني نؤمن بأنه من واجبنا استعادة كل ما هو في الجنة من أغراض مسلوبة وإعادتها إلى الأرض. فعلى العكس وبينما يحاولون القيام بسطو ديني بطولي أخير يرفعون إلى الجنة ذلك السارق الإلهي، ويعطونه أعلى وأرفع وأنبل المملكات الإنسانية. والآن يأتي دور المفكرين الأحرار بإخلاصهم الجريء ودراساتهم العلمية.
يؤمن هؤلاء المثاليون بأنه ولكي تملك الأفكار والأعمال الإنسانية سلطة أكبر على البشر لا بد أن تملك موافقة إلهية. ولا تتجلى هذه الموافقة بمعجزة كما هو الحال في الأديان ولكن تتجلى في عظمة ما تصادق عليه الأفكار والأعمال: فكل ما هو عظيم وجميل ونبيل وعادل يعتبر مقدسًا. ووفق هذا المعتقد الديني الجديد يستمد الإنسان إلهامه من هذه الأفكار وهذه الأعمال، ويصبح كاهنًا بتفويض من الله، لكن ماذا عن الأدلة؟ لا يحتاج المثالي إلى أدلة أبعد من الدلالة على عظمة الأفكار التي يعبر عنها والأعمال التي يقوم بها، وهي مقدسة جدًا وكأن الله بذاته ولوحده من أوحى بها.
هكذا وباختصار تصبح فلسفتهم الكاملة فلسفة عواطف لا أفكارًا حقيقية. إذًا، هي نوع من التقوى الميتافيزيقية. ربما يبدو هذا بريئًا ولكنه ليس كذلك أبدًا. فهذه العقيدة المحددة والضيقة والعقيمة المتخفية تحت ستار هذه الصيغ الشعرية الغامضة على نحو مبهم تؤدي إلى نفس النتائج الكارثية التي تقود إليها الأديان، وهي النفي التام للحرية والكرامة الإنسانية.
لو ادعينا أن كل ما هو عظيم وعادل ونبيل وجميل في الإنسانية مقدَّس سنكون بذلك قد قلنا بأن الإنسانية عاجزة عن إنتاج كل ذلك وأنها تخلت عن ذاتها وطبيعتها تعيسة وشريرة ووضيعة وبشعة. بهذا نكون قد عدنا إلى الأساس الذي تقوم عليه كل الأديان. بكلمات أخرى، سنكون قد عدنا إلى الحط من قدر الإنسانية لصالح مجد الألوهية الأعظم. في اللحظة التي يتم فيها التأكيد على الدونية الطبيعية للإنسان وعجزه عن النهوض بنفسه دون مساعدة الوحي الإلهي، يتحتم عندئذ التسليم بكل التبعات اللاهوتية والسياسية والاجتماعية التي أتت بها الأديان. وفي اللحظة التي يوضع فيها الله، الكائن الأمثل والأسمى، وجهًا لوجه مع الإنسانية سيظهر على الأرض الوسطاء الإلهيين، النخبة، الملهمون من الله لتنوير وتوجيه وإدارة الجنس البشري باسمه.
لو افترضنا بأن الله يلهم الجميع بالتساوي عندها لا يعود من داعٍ لوجود الوسطاء. لكن هذا الافتراض مستحيل لأنه يتناقض بشكل واضح مع الحقائق. عندئذٍ سنكون مجبرين على تحميل الوحي الإلهي كافة أنواع السخافات والعيوب التي ستظهر، وسنحمله مسؤولية كل الفظائع والحماقات والأفعال الدنيئة والجبانة التي ترتكب في العالم. لكن عندئذ قد يظهر بعض الرجال، رجال التاريخ العظام، الأذكياء الشرفاء، كما دعاهم المواطن والنبي الإيطالي المتنور جوزيبي مازيني. أولئك الرجال ممن يلهمهم الله فورًا ويحصلون على الموافقة العامة عبر الانتخابات الشعبية، مثل هؤلاء يجب أن يكون لقبهم حكومة المجتمعات البشرية.
لكننا سنقع مرة أخرى تحت نير ثنائية الكنيسة والدولة. ككل التنظيمات السياسية السابقة يعود فضل وجود هذا التنظيم الجديد، أي الدولة، إلى النعمة الإلهية ولكن هذه المرة بدعم شكلي منبثق عن إرادة الشعب وبما يتوافق مع روح العصر، تمامًا كما عبَّرت عنه مقدمة المرسوم الامبراطوري الذي أصدره نابليون الثالث. توجَّب على الكنيسة عندئذ ألا تعتبر نفسها كنيسة بل مدرسة. وعلى مقاعد هذه المدرسة لن يجلس الأطفال فقط بل سيكون هناك ذلك القاصر الأبدي، ذلك الطالب العاجز أبدًا عن النجاح في امتحاناته والتفوق على أساتذته والتخلي عن أساليبهم، ذلك القاصر الأبدي المتمثل في الشعب. لن تدعو الدولة ذاتها بعد الآن بالدولة الملكية بل ستدعو نفسها آنذاك بالدولة الجمهورية ولكنها ستبقى بالرغم من هذا دولة. ستكون نوعًا من الوصاية الرسمية والدائمة أسستها أقلية مكونة من رجال أكفاء - رجال بذكاء أو نبوغ أخلاقي - ممن سيراقبون ويوجهون سلوك الشعب - ذلك الطفل الكبير والمريع والغير قابل للإصلاح. وسيدعو رؤساء هذه المدرسة وموظفو الدولة أنفسهم بالجمهوريين ولكن لن يكونوا أكثر من معلمين ورعاة وسيبقى الناس على الحال التي كانوا عليها دومًا، سيظلون قطيعًا. إذًا، فلتنتبهوا من الجزارين لأنه في أي قطيع لا بد أن يكون هناك رعاة يجزونه ويلتهمونه.
ترجمة: عزة حسون